منوعات

أهم أدوات العصر.. كيف تكتسب مهارة الصبر على التعلم؟

في عصر الوصول الفوري إلى المعلومات، لم يعد المتعلمون يجدون صعوبة في الوصول إلى المواد الدراسية عالية الجودة من مختلف أنحاء العالم. في المقابل، ظهرت مشكلة عالمية وهي أن القليل من الناس في عصر الوفرة هم مَن لديهم الرصيد الكافي من الصبر من أجل تعلم مهارة جديدة وإتقانها.

في مؤتمر عقدته جامعة هارفارد حول مستقبل التعلم والتعليم، طرح المشاركون سؤالا مهما حول أساسيات التدريس والتعلم الجيدين اليوم، وتحدثت جينيفر ل.روبرتس، أستاذة تاريخ الفن والعمارة، باستفاضة عن تلك المهارة التي تحاول إكسابها لطلابها الآن، وتعتبرها ضرورة أساسية في عصرنا اليوم تفوق أهميتها أي مهارة أخرى.

بادئ ذي بدء، تؤكد جينيفر أن الصبر بات فكرة يصعب تسويقها بوصفها أداة تعليمية، فلطالما اعتُبرت كلمة تقليدية قديمة مثَّلت قيدا أكثر مما بدت فضيلة يجب التحلي بها، فما الذي يدعوك إلى الصبر بينما لديك الكثير من الوسائل التي توفر عليك الانتظار وتُمكِّنك من الإشباع الفوري لرغباتك؟

زاد الأمر صعوبة أن السرعة اعتُبرت من مظاهر التقدُّم؛ البريد الحديث والسفن والسكك الحديدية ثم وسائل الإعلام في القرن العشرين كانت كلها تتسم بالسرعة وتتنافس في تحقيقها، واستطاعت منتجات الصناعة الثقافية أن تتوافق سريعا مع الاتجاهات السائدة في التعلم الرسمي وغير الرسمي، بحيث صار بالإمكان استهلاك المعلومات بسرعة وسطحية، وكأنها وجبة خفيفة مليئة بالسعرات الحرارية تحقق الشبع الفوري لكنها لا تحمل الفوائد الغذائية اللازمة، تماما مثل ملخصات الكتب والفيديوهات التي تتحدث عنها.

مع ميلنا إلى مطالعة ملخصات الكتب بدلا من قراءتها، ومحاولاتنا للحصول على أكبر كمٍّ من المعلومات السريعة والسطحية في أقصر وقت ممكن، وتجاهلنا لحقيقة أننا بذلك لا نراكم معرفة حقيقية، وظهور نتائج ذلك كله جلية في ثقافة الأجيال الجديدة، يدرك المجتمع التعليمي اليوم أهمية الصبر بوصفه أداة تكوينية بشكل متزايد، وأننا لا نزال بحاجة إلى تكوين الموقف والقدرات التفسيرية عبر الكثير من الدأب.

أكَّدت جينيفر أن الصبر بوصفه إستراتيجية يجب أن يكون مهارة أساسية يتعلمها الطلاب، هناك فكرة قديمة جدا هي أن الصبر يكسبنا المهارة، لكننا اليوم نحتاج إلى اكتساب الصبر نفسه باعتباره مهارة في حد ذاته، والتأكيد أن الوقت ليس مجرد مساحة سلبية يجب التغلب عليها، إنه قوة منتجة في حد ذاته.

 

ربما لن يحتاج الناس اليوم إلى الانتظار، لكننا نتحدث هنا عن الصبر باعتباره حالة معرفية نشطة وإيجابية، يمكن اعتبارها أحد أشكال التحكم في إيقاع الحياة المعاصرة التي تفرض سيطرتها علينا، لم يعد الصبر دليلا على افتقاد القوة، لقد أصبح هو القوة، فكيف تكتسب هذه المهارة إذن؟

تجنب الإشباع الفوري

الخبر الجيد هنا أنك حتى لو كنت تعاني من نفاد الصبر بوضوح، فلا يزال بإمكانك تعلُّم هذه المهارة وإتقانها، تماما مثلما يمكن فقدها. (3) الخطوة الأولى هنا أن تتوقف قليلا لتتأمل تلك اللحظات التي تشعر فيها بنفاد الصبر، أثناء زحام عابر مثلا يعطلك لدقائق عن السرعة التي اعتدت عليها، تشعر بالتوتر والقلق وربما تضغط على آلة التنبيه لتستجيب لك السيارات المجاورة، دقائق وينتهي الانتظار وتستأنف السير، لكن المشاعر السلبية لم تنتهِ بعد، ربما يصاحبك تأثيرها حتى نهاية اليوم، وهكذا يؤذيك نفاد الصبر ويُلقي بثقله على أدائك لعدة ساعات أخرى.

ما يحدث هنا كما يوضح الكاتب الألماني إيكهارت تول أننا نشعر بالتوتر لأننا “هنا” بينما تستبد بنا الرغبة في أن نكون “هناك”، بمعنى آخر أنت تعلق خلال تلك الدقائق في الحاضر بينما تريد أن تصبح في المستقبل، ولهذا تود أن تنتهي سريعا لحظات الانتظار.

هناك سبب آخر مهم، وهو أننا لا نختار ذلك الشعور -بنفاد الصبر- بوعي، إنه يحدث داخلنا في اللا وعي، ويكون نتيجة سلبية للطريقة الخاطئة التي ننظر بها إلى ظروفنا. في حالة الازدحام المروري مثلا ينشأ التوتر والشعور بنفاد الصبر عندما نركز انتباهنا على ما يسمى بـ “دائرة القلق”، أي الحدث الذي لا يعتمد علينا، مع شعورنا بعدم القدرة على تغيير الأمر يتسلل إلينا الشعور بالعجز، ثم الغضب ونفاد الصبر، ما الحل هنا؟

في كل مرة نشعر فيها بنفاد الصبر يكون السبب أننا نعتقد أن شيئا ما اعترض طريقنا نحو السعادة، ونريد له أن ينتهي لنصل إلى اللحظة القادمة التي تحمل لنا السعادة، سيختلف الأمر إذا فكَّرنا في إدخال اللحظة في دائرة تحكُّمنا المباشر عن طريق شغلها مثلا بالاستماع إلى الموسيقى، أو الاستماع إلى محاضرة مهمة، أو أي شيء ذي مغزى.

يُطلق علماء النفس المعاصرون على هذه القدرة اسم “العيش مستيقظا”، أي إدراك أننا لا نستطيع تغيير كل ما يحدث لنا، وفي المقابل بوسعنا تغيير موقفنا منه، بحيث نعتاد على إدراك حقيقة أن لكل لحظة وظيفتها، وأن علينا أن نتبنَّى موقفا إيجابيا إزاء كل ما يحدث لنا.

بتغيير بسيط في النظرة إذن سيمكننا التخلص من الرغبة المتواصلة في تحقيق رغباتنا وإشباعها فورا، وشيئا فشيئا سنكتسب القدرة على الصبر، وعلى أن نستمتع بتلك اللحظات التي نعلق فيها في الحاضر ريثما نُنهي مهامنا، وهذا بالضبط ما نحتاج إليه عندما يكون علينا قضاء ساعات في تعلُّم مهارة ما. (4)

ربما يتطلَّب الأمر أن تحاول إعداد البيئة المحيطة لتكون أكثر استرخاء وراحة بشكل يمنحك القدرة على قضاء الساعات الطويلة التي تحتاج إليها للتعلُّم، ربما تكافئ نفسك بمشروب تحبه أو بمقطوعة موسيقية تُفضِّلها، إنك هنا تحاول تغيير ما يقع في دائرة تأثيرك ليكون الحاضر في عقلك ممتعا.

لا تعتد الدوبامين

حسنا، دعنا نخبرك الآن أن الأمر لن يكون بهذه السهولة. تذكَّر أنك عشت سنوات طويلة تسعى إلى الإشباع الفوري، وأن هذا هو الحال السائد في المجتمع حولنا. ونتيجة لذلك، فقد باتت أدمغتنا معتادة على العمل عبر آليتين: الأولى هي تعزيز دوائر المكافأة والشعور بالمتعة الناتجة عن تحقيق الإِشباع، أما الثانية فهي تفعيل آليات تجنُّب الألم عندما يزعجنا أمر ما أو يستعصي تحقيقه، مُتجنِّبين ذلك الشعور بضرورة التحمل، وهكذا اعتاد دماغنا على الدوبامين.(5)

ما ينبغي أن تعرفه هنا أن قدرتك على تطوير مهارة الصبر تتوقف على قدرتك على مواصلة العمل دون دفعات الدوبامين المعتادة (المادة الكيميائية العصبية التي تشعرك بالسعادة) التي تصاحب الإنجازات السريعة، إننا في حاجة إلى التوقف عن اعتياد تلك الدفعات من الدوبامين لكي نتمكَّن من الصبر على قضاء ساعات وأيام طويلة، وربما شهور وسنوات متتالية، في التعلُّم الذي لا تأتي ثماره سريعا. (6)

تلك الدفعات من الدوبامين هي التي تجذبنا لقضاء ساعات طويلة في تصفُّح مواقع التواصل الاجتماعي مثلا، وكما يوضح استطلاع أجرته مؤسسة “ويسل أوت” (WhistleOut) على مجموعة أشخاص من فئات عمرية مختلفة، يقضي الشخص العادي ما يقرب من ثلاث ساعات يوميا في استخدام الهاتف الذكي، وهو ما يعادل في النهاية 8.74 سنة من حياته بالكامل.

تكمن خطورة الأمر في أن الهاتف الذكي يسرق جزءا من انتباهك بمجرد وجوده بجانبك حتى إن لم تستخدمه. في دراسة على ثلاث مجموعات مختلفة من الطلاب الجامعيين، طُلب من المجموعة الأولى أن تُبقي الهاتف الذكي بجانبها مقلوبا على وجهه فقط، بينما طُلب من المجموعة الثانية إبقاؤه في الحقيبة، أما المجموعة الثالثة فوضعت هواتفها الذكية خارج الحجرة، لم تقم أي مجموعة بفحص الهاتف خلال فترة الاختبار الذي يقيس قدراتهم الإدراكية المتعلقة بالذكاء السائل (القدرة على التحليل والتنسيق والحساب المنطقي) أو الذاكرة العاملة (القدرة على الانتباه الفعال).

مع ذلك، فقد حققت المجموعة الثالثة نتائج أكبر، بينما حققت المجموعة الأولى أقل النتائج بين المجموعات، والسبب ببساطة أن لدماغنا نطاقا محدودا من القدرة على الانتباه ومعالجة المعلومات التي نتعرَّض لها يوميا. (7) رشَّح موقع “ويسل أوت” تطبيقات تساعد المستخدمين في الحد من استخدام الهاتف وتحديد وقت محدد لكل تطبيق وفق احتياجات المستخدم، مثل تطبيق “Moment” أو تطبيق “Quality Time “.(8)

يمكن ترسيخ عادات صحية لاستخدام الهاتف الذكي من خلال تخصيص مساحات زمنية خالية من الهاتف، وقت تناول الطعام مثلا أو بعد التاسعة مساء. مع تخصيص فترات للتعلم يمكنك فيها التركيز دون النظر إلى هاتفك، كأن تُتم مهمة بعينها في الصباح قبل أن تستخدم الهاتف مثلا، وأن تعتمد خلال يوم عملك أو ساعات المذاكرة تقنية بومودورو (The Pomodoro Technique) التي تدعم قدرتك على التركيز، وتعني العمل لمدة 25 دقيقة تبتعد فيها تماما عن تشتيت الهاتف، ثم أخذ استراحة لمدة خمس دقائق. (9)

التقدم سيكون بطيئا.. لكن الأمور في قبضتك

دعنا نتحدَّث عن سر آخر من أسرار الصبر؛ هل فكَّرت في السبب الذي يدفع الأطفال إلى البكاء عند الشعور بالجوع مثلا؟ ولماذا يبدون أقل تسامحا مع عدم الإشباع الفوري لرغباتهم؟ في الحقيقة يبكي الأطفال لشعورهم بفقدان السيطرة، لا شيء يعتمد عليهم، إنهم يجهلون تماما من أين سيأتي الطعام ومتى، مع الوقت يكتسبون الصبر شيئا فشيئا ويوقنون بأن الطعام قادم، إن أحد أسرار قدرتك على الصبر هو شعورك بأن الأمور في قبضتك، أنك تعلم مقدار الانتظار الذي تحتاج إليه والنتائج التي ستُحقِّقها في النهاية.

بينما يُنظر إلى الحاجة إلى التحلي بالصبر أحيانا على أنها علامة ضعف، باعتبار أن الأقوياء لا ينتظرون وأنهم يحققون أهدافهم فورا، لكن قوة الصبر هنا تكمن في مساعدتنا في اجتياز المواقف المختلفة دون الانهيار، الصبر ليس لا مبالاة أو استسلاما، إنه قوة ترويض لعواطفنا، وطريقة لعدم الخضوع لها. خذ وقتا لتلاحظ أن بعض الأشياء يمكن أن تنتظر دون أن تُسبِّب المعاناة، وتعلَّم أن تذوق لذة الانتظار. (10)

في دراسة نُشرت عام 2018 في مجلة “نيتشر” (Nature) حول أداء المبدعين والمفكرين، جمع الباحثون التاريخ المهني لعدد كبير من الفنانين والعلماء، وتابعوا الأعمال الفنية والأفلام والمنشورات العلمية لهم للتوقف عند المرحلة التي قدَّم فيها هؤلاء أفضل أعمالهم وأشهرها.

وجد الباحثون أن أغلب المبدعين كان لديهم ما يسمى بـ “الخط الساخن” في حياتهم المهنية، وهي فترة محددة يكون أداؤهم فيها أفضل بكثير من المعتاد، لكن الملاحظ أن هذا التفوق، أو ما يمكن تسميته بالذروة، كان نتيجة تراكم العمل المتواصل، بحيث ظهرت تلك الأعمال الإبداعية فجأة دون القدرة على التنبؤ بها، ما يعني أن الأمر كان نتاج الكثير من الصبر والدأب، وليس لحظة استثنائية.

كان المشترك في كل تلك الأعمال الرائعة هي أنها بُنيت على أساس من الأعمال السابقة، كان التحسن فيها أقل وضوحا، وربما لو كان هؤلاء المبدعون قد استسلموا أو تخلوا عن حياتهم المهنية لما وصلتنا أفضل أعمالهم.

 

 

مقالات ذات صلة

إغلاق